إذا الأرضُ اليَقينُ الأوَّلُ لِلبنانَ، فَيَقينُهُ الثاني كَينونِيٌّ: أرضُهُ لا تُفهَمُ بَل لا تُدرَكُ إلَّا مِن رَحابَةِ الأُلوهَةِ. وَهَذا تَرتيبٌ لَيسَ لِأحَدٍ القُدرَةُ على إزاحَتِهِ، مَهما تَعامى عَنهُ أو تَهافَتَ على نُكرانِهِ. لِمَ؟ لأنَّ الأُلوهَةَ سابِقَةٌ لِأيٍّ كانَ، وَباقِيَةٌ بَعدَ أُفولِ أيٍّ كانَ.

أَأَرضُ لبنانَ سابِقَةٌ في بَداهَةِ التَمايُزِ؟ بَل السابِقَةُ بِما لا تَدَع لِطاقَةٍ الشَكَّ فيها. وَمِنها إستِدرارُ الحَقائِقَ الراسِخَةِ وجوداً. قُلّ: لا وجودَ لِفِكرٍ لا يَكونُ تَفكيراً مِنها وَفيها.

أَأَرضُ لبنانَ قُدسِيَّةُ جَوهَرٍ؟ بَل الجَوهَرُ القُدسِيُّ اللابَديلَ عَنهُ. قُلّ: لا تومِىءُ مَنزِلَةٌ لِأمرٍ إلَّا مِن مَركَزِيَّتِها... أو لا يَكونُ.

لِأراضٍ سيادَةٌ على بَعضِها الآخَرِ، بِمُقتَضى ما فيها أو ما لَها. أمَّا لبنانُ فأرضُهُ سَبقٌ يَتَسَيَّدُ بِما فيهِ. إلِأنَّهُ مِنَ المُطلَقِ؟ أكثَرُ، لِأنَّهُ أقوى الأدِلَّةِ على وجودِهِ. مُطلَقُ المُطلَقِ بِموجَبِ خَلقِهِ.

والأراضي الباقياتِ مُضطَرَّةٌ، بِموجَبِ خَلقِهِ، الى التَسليمِ بِجَوهَرِهِ، وَإلَّا تَداعَت وجوداً وَجَوهَراً في ذاتِها.

لبنانُ أرضٌ! هو الجَذبُ اليَقينِيُّ الى اللامُتناهي. الى الأُلوهَةِ التي مِنها إنبَثَقَ. مِن الهُنا، إختِلافُ أرضِ لبنانَ عَمَّا في الكَونِ مِن أراضٍ: هي لا تَطلُبُ ضَمانَةَ أنَّ الأُلوهَةَ مَوجودَةٌ، لأَنَّها تَدفَعُ الى الأُلوهَةِ.

والأراضي الباقياتِ تَستَدعي أدِلَّةً بَرَّانِيَّةً لِوجودِ الأُلوهَةِ. إذا إنكَشَفَت هَرَعت إلَيها. وإذا نَأت بِنَفسِها عَن ذاكَ الإِستِدعاءَ أو نَبَذَتهُ، تاهَت في... اللاكَفالَةِ.

أرضُ لبنانَ، لِأجل الهُنا، لا تَستدَعي كَفالَة مِنَ الكَونِ. الكَونُ يَكونُ بِشَهادَتِها ألمِنَ الأُلوهَةِ، أو يَركُنُ الى ألَّا يَكونَ. هي لا تَستَجوِبُ إلَّا ذاتَها. وإذا الكَونُ تَبَدَّى مِن وَراءِ الأُلوهَةِ، فَإنَّها هي مِن وَراءِ الأُلوهَةِ وَ...أمامَها.

أرضُ لبنانُ هي تالِيَاً غَرفُ البَراهينَ... على وجودِ الأُلوهَةِ وَجَوهَرِها، لِأَنَّها الأقرَبُ لِقَلبِ الأُلوهَةِ وَإبداعِها. وَأجَلُّها. ألِإنَّها تَحوي التَمايُزَ بِوضوحٍ؟ الِإنَّها فِكرَةُ أفكارِها المُتَجَسِّدَةِ؟ بَل لِأَنَّها كَمالُ اللامُتَناهيُ، لا حاصِلَ أُمورٍ مُتَناهِيَةٍ مَرصوفَةٍ حَولَ إختِلافاتِ مَبدَإٍ. لِذا لا يُزادُ عَلَيها أمرٌ. وَلا يَنقُصُ مِنها أمرٌ.

تَساوي الإسمِ وَتَعاضُدِ الصِفَةِ

هي أرضُ لبنانَ واقِعُ تَساوي مَعَ إسمِها. يَشهَدُ لها التاريخُ، مِن "غَلغامِشَ" أولى المَلحَماتِ البَشَرِيَّةِ، الى مُدَوَّناتِ الفَراعِنَةِ أوَّلِ الحُكَّامِ المُتَألِّهينَ... حَتَّى قُسطَنطينَ الإمبراطورِ (القَرنِ الرابِعِ بَعدَ الميلادِ): "الأرضُ المُقَدَّسَةُ"، بِسِلسِلَتَي جِبالِها الرابِطِ بَينَهُما سَهلُ خَصبِ القَمحِ وَكُرومِ الخَمرِ... الى إمتِدادِ مُدُنِها-المَمَالِكِ. في العِبرِيَّةِ ألمِنَ الآرامِيَّةِ-الفينيقِيَّةِ-الُلبنانِيَّةِ: Admat haqodesh، وَمِنَ الإغريقِيَّةِ فاتِحَةِ الفِكرِ المُؤَسِّسِ لِلغَربِ: Hè gè hè hagia، وَمِنَ اللاتينِيَّةِ، مُرسِيَةِ تُراثِ الكَنيسَةِ-شَعبِ-اللهِ الى إقاصِيَ الأرضِ: .Terra sancta

هي أرضُ لبنانَ واقِعُ تَعاضُدٍ مَعَ صِفَتِهِ. يَشهَدُ لَها بلينُ الشابُ Caius Plinius Lucius (61-113 قَبلَ الميلادِ)، الحاكِمُ زَمَنَ تِيطُسَ وَتراجانَ إمبراطورِيَّ روما الشامِلَةِ العالَمَ: "إنَّها الأرضُ المَعشوقَةُ مِنَ الآلِهَةِ، وَشَغَفُها... مَتى زُرتَها، إركَع على تُرابِها!".

أرضُ تَجلِّي النِسبَةِ لا تَجَسُّدُ الإنتِسابِ فَحَسبَ. شَهادَةُ الجُغرافيا لِمَرجَعِيَّةٍ خَلقُها تَجَدُّدٌ في الإستِثنائِيَّةِ. ألَيسَ القِدِّيسُ البابا يوحَنَّا-بولُسُ الثاني مَن كَتَبَ في إرشادِهِ الرَسولِيِّ "رَجاءٌ جَديدٌ لِلبنانَ" (ألموَقّعه في لبنانَ يَومَ 10 أيَّارِ 1997): "إنَّ قَدَمَي فادي العالَمِ قَد وَطِئَتا أرضَكُمُ... وَعَيناهُ أُعجِبَتا بِجَمالِها... هَذِهِ الأرضُ التي مَرَّ المُخَلِّصُ عَلَيها فَأصبَحَت أرضاً مُقَدَّسَةً"؟

إنَّها الكَمالُ في اللامُتَناهي.

الباقِياتُ الأراضي، غَيرُ كامِلاتٍ. يُبطِلُ حَدَّها اللامُتَناهيُ.